أبو الحديد (قصة قصيرة)

أبو الحديد 
بقلم الأستاذ أحمد أبو المجد









  لم تكتمل فرحة الحاج ابو العز بحصول ابنه الوحيد على بكالوريوس الطب ,فقد افسد الفرحة إصرار ابنه الدكتور ماجد على أن يفتتح عيادته بقريته التي منحته كل شئ ,وجاء دوره ليمنحها علمه , لم تفلح نصائح الأب لابنه بالابتعاد عن القرية ,وبناء مستقبله خارجها , ولم تكن هذه المرة هي الأولى ,التي يحتدم فيها النقاش ولكنها كانت الأكثر سخونة, لأنها الأخيرة, وكعادته أنهى الأب حديثه بما يشبه الصرخة وهو يقول , (يا بنى ده راجل نابه ازرق ولسانه زفر وما يعرفش ربنا وأنا خايف عليك ) , وكعادته حاول الابن التهدئة من روع أبيه بقوله (يا ابا مينفعش إن إحنا ندفن رأسنا في الرمل علشان خايفين من الراجل الجاهل ده ) ............. 




الطاحونة .. وشجرة الجميز.. والترعة.. .. والخوف ..كلها أشياء تجدها في القرية لكن من المستحيل أن تعرف متى جاءت إليها وهكذا كان أبو الحديد فلا أحد يعلم له أهلا أو أقارب أو عائلة أو نسب او ما هى علاقته بهذه القرية , وشيوخ القرية لا يعرفون من أين آتى ؟ فهو غريب عن هذه القرية لكنه كالزرع الشيطاني أو كالسرطان في الجسد , يكتنفه الغموض في كل شئ , حتى إن أحدا لا يعرف كم عمره , فكأنما هو من باع روحه للشيطان ليمنحه الشيطان الشباب.... 




لن تجد في القرية من يحكى لك علنا عن هذا الرجل فالكل يتصنع له الود لكن في السر يمكنك أن تسمع عنه الكثير ....فقد كان عليما بفنون الجهل - لو كان للجهل فنون – يرى البسطاء في حقيبته الخشبية أسرار وكهنوت الصحة , فالسنوات الطويلة التي مرت وهو يتنقل من دار إلى دار يمارس طقوسه لعلاج أهل القرية بالكي والسلفا و إخراج ضربة الشمس من الرأس بمفتاحه النحاسي القديم في لحظات اشد ما تكون على أهل المريض الذين يقتلهم الانتظار لنتيجة طقوسه رفعته في أعينهم لمكانة تتجاوز وضعه (كحلاق صحة ) من آلاف حلاقي الصحة التي اكتظت بهم القرى المصرية في بدايات القرن الماضي , وبالرغم من جهله إلا انه استثمر جهلهم وخوفهم من المجهول ليسيطر على عقولهم, وهكذا يتحول الوهم إلى حقيقة يقسم الناس على رؤيتها أمام أعينهم , و يتحول الجاهل إلى رمز فيصبح نصبا تذكاريا لمجتمع الخرافة .. 




تعجز ذاكرة القرية أن تنسى معركته مع الدكتور موسى أول طبيب دخل القرية فقد كاد يجن وهو يرى هذا الشاب النابه يسحب من تحت قدميه عرش الخرافة والدجل رغم حداثة سنه , وكادت تسقط مملكة الجهل , ولكن لم تستلم قوى الشر لنور المعرفة ولم يكتفي حلاق الصحة بما عرض عليه من أن يعمل معه مساعدا له , فجمع أبو الحديد كيده فلم يكن وحيدا ,فالغربان ربما لا تطير في أسراب ولكن يجمعها نهش الجثث , وكان في القرية مجموعة من ندماء الجهل يقتاتون من الخرافة منهم عمر خادم المسجد الذي عجز أن يصبح إماما للمسجد فدفعه جنون حقده وكراهيته إلى أن يحاول إشعال النار في منبر المسجد ليحرم الأمام من صعود المنبر !! وبعض شباب القرية الذين يسيطر عليهم أبو الحديد بطرقه الخبيثة , كل هؤلاء كان يسخرهم أبو الحديد في مواجهاته مع كل طبيب يدخل القرية مستخدمين في سبيل ذلك أحط واقذر الطرق والأساليب, فبالتشنيع تارة, وبالشائعات والكيد بالتهم الباطلة ,ولم يكونوا يتورعوا وهم في سبيلهم إلى ذلك عن أي شئ فهم رهط يفسدون في القرية ولا يصلحون, فقد كانت الغاية دائما تبرر الوسيلة ,كل هذه المواجهات كانت دائما ما تجبر كل طبيب يدخل القرية إلى أيثار السلامة , وتركها لسيطرة ونفوذ أبو الحديد , وكان الخاسر دائما هم أهل القرية التي انتشرت بينهم الأمراض والأوجاع والسقام , وهذا ما جعل الدكتورماجد مصرا على تحطيم صرح الجهل والخرافة ومعالجة أبناء قريته من أمراضهم وعللهم .. 




افتتح الدكتور ماجد عيادته في القرية ليمر من أمامها أبو الحديد وهو يتملكه الغيظ وهو يقرأ عيادة الدكتور ماجد ابو العز فبالرغم من الأموال الكثيرة التي جمعها والأراضي الكثيرة التي يمتلكها والرهبة التي في نفوس البسطاء تجاهه إلا أن كل ذلك لم يغنى عجزه ورغبته وحلمه أن يرتدى البالطو الأبيض ويكتب اسمه على يافطة وبجوارها كلمة الدكتور , وهذا ما كان يضخم عقدة نقصه , فيزيد من استهدافه لكل الأطباء ويجعلهم أعداء له ,مر على القرية أطباء كثيرون يمتلكون من العلم والخبرة الكثير , لكن ابو الحديد ورهطه كانوا يدافعون عن جهلهم ببسالة الجهلاء ,وكان الاطباء يتركون ساحة المعركة فهم أطباء في أي مكان في الدنيا لكن لن يكون أبو الحديد إلا في هذه القرية التي يلقى هو ورهطه بظلال الجهل عليها ,ودارت رحى المعركة بين رهط الجهل بقيادة أبو الحديد وبين الدكتور ماجد بين الجهل وبين نور المعرفة .... 




كان ابو الحديد دائما يبحث عن السلطة وذلك ما دفعه لان يلهث خلف الغفير منصور الذي كان أحد أبناء الليل ثم أعلن توبته واختاره شيخ الغفراء أتقاءا لشره وليرشد عن زملاءه القدامى من أبناء الليل , هذه العلاقة هي التي ورطت أبو الحديد في جريمة لم تتم , فقد اعتدى الغفير منصور على توحيدة إحدى بنات الترحيلة اللاتي يجمعن من القرى المجاورة للعمل في الحقول في موسم الحصاد, فحملت منه سفاحا , و أراد منصور أن يجهضها فلم يجد ألا تابعه الشيطان أبو الحديد , لكن أراد القدر أن يكشف سترهم , فسمعهم وهم يدبرون جريمتهم بدران , ذلك الشاب المعتوه الذي دائما يتمتم بكلمات غير مفهومة – عبيط القرية – فما أن طلع النهار إلا وكانت القرية كلها تعرف فضيحة منصور و أبو الحديد بعدما أفشاها بدران هذه الفضيحة التي جعلت أبو الحديد اكثر شراسة في مواجهته مع الدكتورماجد, وكعادته مضت ايام طويلة وابو الحديد ينفق جل وقته فى محاولات عقيمة للاساءة الى الدكتورماجد حتى انهكه التعب وزاد همه هما عندما سرى فى القرية خبر ان الحكومة تسعى لاقامة مستشفى فى القرية , وهو ما جعل ابو الحديد يخلد الى النوم هما وكمدا , وفى نومه تكالبت عليه الكوابيس فقد رأى فى منامه الاطباء بملابسهم البيضاء يلتفون من حوله.... فأخذ يصرخ حتى استيقظ من نومه مفزوعا.... واشرقت الشمس على القرية .. وغربت ولم ير اهل القرية ابو الحديد فى ذلك اليوم , ومرت ايام وليالى كثيرة لم يظهر ابو الحديد ولم يسأل عنه اهل القرية فقد ذهب الجهل الى المجهول كما جاء منه .... 




{ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } 





سورة الرعد الآية 17: